أخر الاخبار




العودة من الموت

العودة من الموت

بالأمس عدت إلى بيتي متعباً منهكاً فقالت لي زوجتي هلَّا بدلت ثيابك وارتحت طفيفا ريثما ينضج الأكل  
وبالفعل ذهبت إلى غرفتي وبدلت ثيابي وتمددت على سريري واغمضت عيني  
ولم أفتح عينيَّ إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر، فخرجت من الغرفة متوجها إلى المطبخ فوجدت زوجتي منهمكة في تجهيز المائدة..... 
جلست إلى المائدة وسألتها ماذا طبختي لنا اليوم يا حبيبة القلب  
إلا أنها لم ترد  فعاودت السؤال مرة ثانية وثالثة فتفاجأت انها لم ترد .... فكانت دهشتي سابق من غضبي  
إذ أنها أول مرة وعلى نطاق عشرين عاماً من حياتي الزوجية أخاطب فيها زوجتي ولا تعيرني أي انتباه. 
التفت فإذا بابني يدخل المطبخ, فطلبت منه إحضار زجاجة ماء من الثلاجة, فكان جوابه مماثلا لجواب والدته, فازداد تعجبي منه ذلك الشاب الدمث الذي يُضرب به المثل في الأدب وحسن الخلق  
فهممت بالخروج من المطبخ فإذ بزوجتي تقول لأبني: اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء  هنا بلغ مني الذهول مبلغا   
وبالفعل اتجه إبني إلى غرفتي ليوقظني   فصرخت فيه بعلو صوتي أنا هنا, فلم يلتفت إليَّ ومضى مسرعاً وتركني غارقاً في ذهولي. 
وبعد دقيقة أو يزيد رجع وقد ارتسم الرعب على وجهه فقالت له أمه : هل أيقظت أباك   
فتلعثم قليلا ثم صرح: حاولت إيقاظه مرارا وتكرارا لكنه لم يجب   فازدادت دهشتي, ماذا يقول هذا الولد  
فدخلت زوجتي مسرعةً إلى القاعة وخلفها الأولاد مذعورين فتبعتهم لأجدها تحاول إيقاظ شخص آخر في سريري يشبهني على الإطلاقً, ويلبس نفس ثيابي,,,, 
وما إن يأست من إيقاظه حتى بدأت عيناها تغرورق بالدموع وبدأ أبنائي في البكاء والنحيب ومناداة هذا الرجل الملقى على فراشي والتعلق بثيابه أملا في الرد. 
وأنا لا أصدق ما يجري حولي  
يا إلهي ما الذي يحدث  من هذا الرجل الذي هو نسخة مني   لماذا لا يسمعني واحد من   لماذا لا يراني أحد 
خرج ابني مسرعا ليعود بعد قليل ومعه أبي وأمي وإخوتي وانهمر الجميع في البكاء وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني وتبكي بكاءا حارا، فذهبت إليها محاولا لمسها والجديد معها وإفهامها أني مازلت بجوارها إلا أنه حيل بيني وبين ما أردت  
فالتفت إلى والدي وإلى إخوتي محاولا إسماع صوتي ولكن دون فائدة  
ذهب إخوتي للإعداد للجنازة وخرَّ والدي على الكرسي يذرف الدمع وأنا في ذهول تام وإحباط حاد من هول ذلك الكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه. 
أتى المغسل وبدأ في تغسيل ذاك الجسم الملقى على فراشي بإعانة أبنائي ولفه بالكفن ووضعه في التابوت. 
وتوافد الأصدقاء والأحباب إلى المنزل والكل يعانق والدي المنهار ويعَزُّون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان. 
ثم حملوا التابوت إلى المسجد ليصلُّوا عليه, وخلا البيت سوى من النساء. فخرجت مسرعاً وراء الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا علي. 
ووسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسر وسهولة دون أن ألمس أحدا. 
كبَّر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم يا أهلي يا جيراني على من تصلون   
أنا معكم ولكن لا تشعرون  
أناديكم ولكن لا تسمعون  
بين أيديكم ولكن لا تبصرون 
فلما استيئست منهم تركتهم يصلون وتوجهت إلى هذا الصندوق وكشفت الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه,,, 
وما إن أعلنت عن وجهه حتى فتح عينيه ونظر إليَّ وتحدث: الآن انتهى بطولة دوري ،،، أنا إلى الفناء أما أنت فإلى المكث  
ثم أفاد لازمتك ما يزيد عن أربعين عاما واليوم مآلي 
إلى التراب ومآلك إلى الحساب  
ولم أشعر بنفسي سوى وأنا ملقى في التابوت فاقدا إحكام القبضة على كل شئ, أطرافي لم تعد تستيجب لي. لم أعد أرى شيئاً, لم أعد أشد على الحراك, أحاول الخطاب فلا أستطيع. 
فقط أسمع تكبيرات الإمام ... 
ثم غمغمات المشيعين .... 
ثم صوت التراب ينهال عليّ ....َ 
ثم قرع النعال مبتعدة .... 
أدركت حينها أنها النهاية .... 
ولربما البداية .... 
مستهل الخاتمة .... 
هكذا بكل بساطة ودون مقدمات   
مازال لدي الكثير من المواعيد  
مازال لدي الكثير من الأشغال 
مازال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوص بسدادها
أين نقالي  
أريد أن أوصي بفعل خير لطالما أجلته
أريد أن أنهى عن منكر دائما ما رأيته
وشيئا فشيئا بدأت أختنق 
ثم سمعتُ أصوات أقدام متجهة إليَّ, 
يا ويلتى سينطلق الحساب 
هذا ما كان يقال لي في الدنيا
لابد أنهما منكر ونكير في طريقهما إليَّ
وبقيت أصرخ في قبري  
رب ارجعونِ 
رب ارجعونِ   
رب ارجعونِ   
لعلي,,, أعمل صالحا فيما تركت 
فلا أسمع صدى لدعائي إلا 
كلا   كلا  كلا 
ولازلت على تلك الحال حتي تدفق إلى مسامعي صوت رقيق يهمس في أذني : بابا, بابا, الغدا يا بابا 
ففتحت عينيَّ لأجد ابنتي وفلذة كبدي مبتسمة كعادتها في وجهي وهي تقول: " يلا يا بابا قبل الغذاء ما يبرد" 
احتضنتها بلهفة وقبلت جبينها ثم تركتها تذهب  
وجلست في فراشي برهة وأنا أشعر بإرهاق حاد وأطرافي ترتعد وجسدي يتصبب عرقا .... 
لأخاطب نفسي قائلا: 
.... ها يا نفسُ قد عدتي ,,, فأريني أي صالحٍ ستعملين قبل أن يجيء يوم تسألين فيه الرجعى فلا يستجاب لكِ.... 
سارع بالخيرات بأعمال الصالحات  وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -